كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ..} [الإسراء: 18]
أي: عطاء الدنيا ومتعها ورُقيها وتقدّمها.
{عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ..} [الإسراء: 18] أجبْنَاهُ لما يريد من متاع الدنيا.
ولابُدَّ لنا أنْ نتنبه إلى أن عطاء الربوبية الذي جعله الله للمؤمن والكافر، قد يغفل عنه المؤمن ويترك مُقوّمات الحياة وأسبابها يستفيد منها الكافر ويتفاعل معها ويرتقي بها، ويتقدم على المؤمن، ويمتلك قُوته ورغيف عيشه، بل وجميع متطلبات حياتهم، ثم بالتالي تكون لهم الكلمة العليا والغلبة والقهر، وقد يفتنونك عن دينك بما في أيديهم من أسباب الحياة.
وهذا حال لا يليق بالمؤمن، ومذلة لا يقبلها الخالق سبحانه لعباده، فلا يكفي أن نأخذ عطاء الألوهية من أمر ونهي وتكليف وعبادة، ونغفل أسباب الحياة ومُقوّماتها المادية التي لا قِوامَ للحياة إلا بها.
في حين أن المؤمن أَوْلَى بمقوّمات الحياة التي جعلها الخالق في الكون من الكافر الذي لا يؤمن بإله.
إذن: فمن الدين ألاَّ تمكِّن أعداء الله من السيطرة على مُقوِّمات حياتك، وألاَّ تجعلَهم يتفوقون عليك.
وقوله: {مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ..} [الإسراء: 18] أي: أن تفاعل الأشياء معك ليس مُطْلقًا، بل للمشيئة تدخُّلٌ في هذه المسألة، فقد تفعل، ولكن لا تأخذ لحكمة ومراد أعلى، فليس الجميع أمام حكمة الله سواء، وفي هذا دليل على طلاقة القدرة الإلهية.
ومعنى {مَا نَشَآءُ..} للمعجَّل و{لِمَن نُّرِيدُ} للمعجَّل له. وما دام هذا يريد العاجلة، ويتطلع إلى رُقيِّ الحياة الدنيا وزينتها، إذن: فالآخرة ليستْ في باله، وليست في حُسْبانه؛ لذلك لم يعمل لها، فإذا ما جاء هذا اليوم وجد رصيده صِفْرًا لا نصيب له فيها؛ لأن الإنسان يأخذ أجره على ما قدّم، وهذا قدَّم للدنيا وأخذ فيها جزاءه من الشهرة والرقيّ والتقدّم والتكريم.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39].
والسراب ظاهرة طبيعية يراها مَنْ يسير في الصحراء وقت الظهيرة، فيرى أمامه شيئًا يشبه الماء، حتى إذا وصل إليه لم يجدْهُ شيئًا، كذلك إنْ عمل الكافرُ خيرًا في الدنيا فإذا أتى الآخرة لم يجدْ له شيئًا من عمله؛ لأنه أخذ جزاءه في الدنيا.
ثم تأتي المفاجأة: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ} [النور: 39] وفي آية أخرى يصفه القرآن بقوله: {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذالِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم: 18].
فمرة يُشبِّه عمل الكافر بالماء الذي يبدو في السراب، ومرة يُشبِّهه بالرماد؛ لأن الماء إذا اختلط بالرماد صار طينًا، وهو مادة الخِصْب والنماء، وهو مُقوِّم من مُقوِّمات الحياة.
ووصفه بقوله تعالى: {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 264] والحق تبارك وتعالى في هذه الآية يُجسِّم لنا خَيْبة أمل الكافر في الآخرة في صورة مُحسَّة ظاهرة، فمثَلُ عمل الكافر كحجر أملس أصابه المطر، فماذا تنتظر منه؟ وماذا وراءه من الخير؟ ثم يقول الحق سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا} [الإسراء: 18] أي: أعددناها له، وخلقناها من أجله يُقاسي حرارتها {مَذْمُومًا} أي: يذمُّه الناس، والإنسان لا يُذَمّ إلا إذا ارتكب شيئًا ما كان يصحّ له أنْ يرتكبه.
و{مَّدْحُورًا} [الإسراء: 18] وبعد أنْ أعطانا الحق سبحانه صورة لمن أراد العاجلة وغفل عن الآخرة، وما انتهى إليه من العذاب، يعطينا صورة مقابلة، صورة لمن كان أعقل وأكيس، ففضَّل الآخرة.
يقول الحق سبحانه: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا}.
المتأمل في أسلوب القرآن الكريم يجده عادة يُعطيِ الصورة ومقابلها؛ لأن الشيء يزداد وضوحًا بمقابله، والضِّد يظهر حُسْنه الضّد، ونرى هذه المقابلات في مواضع كثيرة من كتاب الله تعالى كما في: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13-14]
وهنا يقول تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ} [الإسراء: 19] في مقابل: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ..} [الإسراء: 18] قوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا..} [الإسراء: 19] أي: أراد ثوابها وعمل لها.
{وَهُوَ مُؤْمِنٌ..} [الإسراء: 19] لأن الإيمان شَرْط في قبول العمل، وكُلُّ سعي للإنسان في حركة الحياة لابد فيه من الإيمان ومراعاة الله تعالى لكي يُقبَل العمل، ويأخذ صاحبه الأجر يوم القيامة، فالعامل يأخذ أجره ممَّنْ عمل له.
فالكفار الذين خدموا البشرية باختراعاتهم واكتشافاتهم، حينما قدّموا هذا الإنجازات لم يكُنْ في بالهم أبدًا العمل لله، بل للبشرية وتقدُّمها؛ لذلك أخذوا حقهم من البشرية تكريمًا وشهرة، فأقاموا لهم التماثيل، وألّفوا فيهم الكتب.. إلخ.
إذن: انتهت المسألة: عملوا وأخذوا الأجر ممن عملوا لهم. وكذلك الذي يقوم ببناء مسجد مثلًا، وهذا عمل عظيم يمكن أن يُدخل صاحبه الجنة إذا توافر فيه الإيمان والإخلاص لله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من بنى لله مسجدًا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتًا في الجنة».
ولكن سرعان ما نقرأ على باب المسجد لافتة عريضة تقول: أنشأه فلان، وافتتحه فلان.. إلخ مع أنه قد يكون من أموال الزكاة!! وهكذا يُفسد الإنسان على نفسه العمل، ويُقدم بنفسه ما يُحبطه، إذن: فقد فعل ليقال وقد قيل. وانتهت القضية.
وقوله تعالى: {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا..} [الإسراء: 19] وهذا جزاء أهل الآخرة الذين يعملون لها، ومعلوم أن الشكر يكون لله استدرارًا لمزيد نِعَمه، كما قال تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ..} [إبراهيم: 7] فما بالك إنْ كان الشاكر هو الله تعالى، يشكر عبده على طاعته؟ وهذا يدل على أن العمل الإيماني يُصادف شُكْرًا حتى من المخالف له، فاللص مثلًا إنْ كان لديه شيء نفيس يخاف عليه، فهل يضعه أمانة عند لصٍّ مثله، أم عند الأمين الذي يحفظه؟ فاللصّ لا يحترم اللص، ولا يثق فيه، في حين يحترم الأمين مع أنه مخالف له، وكذلك الكذاب يحترم الصادق، والخائن يحترم الأمين.
ومن هنا كان كفار مكة رغم عدائهم للنبي صلى الله عليه وسلم وكفرهم بما جاء به إلا أنهم كانوا يأتمنونه على الغالي والنفيس عندهم؛ لأنهم واثقون من أمانته، ويلقبونه بالأمين، رغم ما بينهما من خلاف عقديّ جوهري، فهم فعلًا يكذبونه، أما عند حفْظ الأمانات فلن يغشُّوا أنفسهم، لأن الأحفظ لأماناتهم محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد ضربنا لذلك مثلًا بشاهد الزور الذي تستعين بشهادته ليُخرجك من ورطة، أو قضية، فرغم أنه قضى لك حاجتك وأخرجك من ورطتك، إلا أنه قد سقط من نظرك، ولم يعُدْ أهلًا لثقتك فيما بعد.
لذلك قالوا: مَنِ استعان بك في نقيصة فقد سقطْتَ من نظره، وإنْ أعنْتَه على أمره كشاهد الزور ترتفع الرأس على الخصم بشهادته وتدوس القدم على كرامته.
ثم يقول الحق سبحانه عن كلا الفريقين: {كُلًا نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ}.
{كُلًا} أي: كلاَ الفريقين السابقين: مَن أراد العاجلة، ومَن أراد الآخرة: {نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ..} [الإسراء: 20] أي: أن الله تعالى يمدُّ الجميع بمُقوّمات الحياة، فمنهم مَنْ يستخدم هذه المقومات في الطاعة، ومنهم مَنْ يستخدمها في المعصية، كما لو أعطيتَ لرجلين مالًا، فالأول تصدّق بماله، والآخر شرب بماله خمرًا.
إذن: فعطاء الربوبية مدَدٌ ينال المؤمن والكافر، والطائع والعاصي، أما عطاء الألوهية المتمثل في منهج الله: افعل ولا تفعل، فهو عطاء خاصٌّ للمؤمنين دون غيرهم.
وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا..} [الإسراء: 20] أي: ممنوعًا عن أحد؛ لأن الجميع خَلْقه تعالى، المؤمن والكافر، وهو الذي استدعاهم إلى الحياة، وهو سبحانه المتكفّل لهم بمُقوّمات حياتهم، كما تستدعي ضيفًا إلى بيتك فعليك أنْ تقومَ له بواجب الضيافة.
ونلاحظ هنا أن الحق سبحانه اختار التعبير بقوله: {مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ..} [الإسراء: 20] لأن العطاء المراد هنا عطاء ربوبية، وهو سبحانه ربّ كلّ شيء. أي: مُربّيه ومتكفّل به، وشرف كبير أن يُنسبَ العطاء إلى الرب تبارك وتعالى.
ثم يقول الحق سبحانه: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ...}.
الحق تبارك وتعالى أعطانا قضايا إيمانية نظرية، ويريد مِنّا أنْ ننظر في الطبيعة والكون، وسوف نجد فيه صِدْق ما قال.
يقول تعالى: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ..} [الإسراء: 21] والمتأمل يجد أن الله تعالى جعل التفضيل هنا عامًّا، فلم يُبيّن مَن المفضَّل ومَنِ المفضّل عليه، فلم يقُلْ: فضلت الأغنياء على الفقراء، أو: فضلت الأصحاء على المرضى.
إذن: فما دام في القضية عموم في التفضيل، فكلُّ بعض مُفضَّل في جهة، ومُفضّل عليه في جهة أخرى، لكن الناس ينظرون إلى جهة واحدة في التفضيل، فيفضلون هذا لأنه غني، وهذا لأنه صاحب منصب.. إلخ.
وهذه نظرة خاطئة فيجب أن ننظر للإنسان من كُلِّ زوايا الحياة وجوانبها؛ لأن الحق سبحانه لا يريدنا نماذج مكررة، ونُسَخًا مُعَادة، بل يُريدنا أُنَاسًا متكاملين في حركة الحياة، ولو أن الواحد مِنّا أصبح مَجْمعًا للمواهب ما احتاج فينا أحدٌ لأحد، ولتقطعت بيننا العَلاقات.
فمن رحمة الله أن جعلك مُفضَّلًا في خَصْلة، وجعل غيرك مُفضَّلًا في خصال كثيرة، فأنت محتاج لغيرك فيما فُضِّل فيه، وهم محتاجون إليك فيما فُضِّلْتَ فيه، ومن هنا يحدث التكامل في المجتمع، وتسلَمْ للناس حركة الحياة.
ونستطيع أن نخرج من هذه النظرة بقضية فلسفية تقول: إن مجموع مواهب كل إنسان تساوي مجموع مواهب كل إنسان، فإنْ زِدْتَ عني في المال فربما أزيد عنك في الصحة، وهكذا تكون المحصّلة النهائية متساوية عند جميع الناس في مواهب الدنيا، ويكون التفاضل الحقيقي بينهم بالتقوى والعمل الصالح، كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
لذلك يجب على المسلم أن يلتزمَ أدب الإسلام في حِفْظ مكانة الآخرين، فمهما كنت مُفضَّلًا فلا تحتقر غيرك، واعلم أن لهم أيضًا ما يفضلون به، وسوف يأتي اليوم الذي تحتاج إليهم فيه.
وقد ضربنا لذلك مثلًا بالعظيم الوجيه الذي قد تضطره الظروف وتُحوِجه لسباك أو عامل بسيط ليؤدي له عملًا لا يستطيع هو القيام به، فالعامل البسيط في هذا الموقف مُفضِّل على هذا العظيم الوجيه. ولك أنْ تتصورَ الحال مثلًا إذا أضرب الكناسون عدة أيام عن العمل. إذن: مهما كان الإنسان بسيطًا، ومهما كان مغمورًا فإن له مهمة يفضّل بها عن غيره من الناس.
خُذ الخياط مثلًا، وهو صاحب حرفة متواضعة بين الناس، ولا يكاد يُجيد عملًا إلا أن يخيطَ للناس ثيابهم، فإذا ما كانت ليلة العيد وجدته من أهم الشخصيات، الجميع يقبلون عليه، ويتمنون أن يتكرم عليهم ويقضي حاجتهم من خياطة ثيابهم وثياب أولادهم.
وبهذا نستطيع أن نفهم قَوْل الحق تبارك وتعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32] فكل منا مُسخَّر لخدمة الآخرين فيما فُضِّل فيه، وفيما نبغ فيه. وصدق الشاعر حين قال:
النَّاسُ لِلناسِ مِنْ بَدْوٍ ومِنْ حَضَرٍ ** بَعْضٌ لبعْضٍ وإن لم يشعروا خَدَمُ

إذن: في التفاضل يجب أن ننظر إلى زوايا الإنسان المختلفة؛ لأن الجميع أمام الله سواء، ليس مِنّا مَن هو ابن الله، وليس مِنّا مَنْ بينه وبين الله نسَبٌ أو قرابة، ولا تجمعنا به سبحانه إلا صلة العبودية له عز وجل، فالجميع أمام عطائه سواء، لا يوجد أحد أَوْلَى من أحد.
فالعاقل حين ينظر في الحياة لا ينظر إلى تميُّزه عن غيره كموهبة، بل يأخذ في اعتباره مواهب الآخرين، وأنه محتاج إليها وبذلك يندكّ غروره، ويعرف مدى حاجته لغيره. وكما أنه نابغ في مجال من المجالات، فغيره نابغ في مجال آخر؛ لأن النبوغ يأتي إذا صادف العمل الموهبة، فهؤلاء البسطاء الذين تنظر إليهم نظرة احتقار، وترى أنهم دونك يمكن أن يكونوا نابغين لو صادف عملهم الموهبة.
وقوله تعالى: {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا..} [الإسراء: 21] فإنْ كان التفاضل بين الناس في الدنيا قائمًا على الأسباب المخلوقة لله تعالى، فإن الأمر يختلف في الآخرة؛ لأنها لا تقوم بالأسباب، بل بالمسبب سبحانه، فالمفاضلة في الآخرة على حسبها.
ولو تأملتَ حالك في الدنيا، وقارنتَه بالآخرة لوجدتَ الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلًا، فعمرك في الدنيا موقوت، وسينتهي إلى الموت؛ لأن عمرك في الدنيا مدة بقائك فيها، فإنْ بقيْت من بعدك فهي لغيرك، وكذلك ما فُضِّلْتَ به من نعيم الدنيا عُرْضَة للزوال، حيث تناله الأغيار التي تطرأ على الإنسان.
فالغنيّ قد يصير فيقرًا، والصحيح سقيمًا، كما أن نعيم الدنيا على قَدْر إمكانياتك وتفاعلك مع الأسباب، فالدنيا وما فيها من نعيم غير مُتيقّنة وغير موثوق بها.
وهَبْ أنك تنعَّمْتَ في الدنيا بأعلى درجات النعيم، فإن نعيمك هذا يُنغِّصه أمران: إما أن تفوت هذا النعيم بالموت، وإما أنْ يفوتَك هو بما تتعرّض له من أغيار الحياة.
أما الآخرة فعمرك فيها مُمتدّ لا ينتهي، والنعمة فيها دائمة لا تزول، وهي نعمة لا حدودَ لها؛ لأنها على قَدْر إمكانيات المنعِم عز وجل، في دار خلود لا يعتريها الفناء، وهي مُتيقنة موثوق بها.